فصل: تفسير الآيات (84- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (81):

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}
قلت: {طاعة}: خبر، أي: أمرنا طاعة، وأصله النصب على المصدر، ورُفِعَ للدلاله على الثبوت، وبيِّتَ الشيء، دبَّره ليلاً وأضمره في نفسه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في شأن المنافقين: {ويقولون} لك إذا حضروا معك: أمرنا وشأننا {طاعةٌ} لك فيما تأمرنا به، {فإذا برزوا} أي: خرجوا {من عندك بيَّت طائفة منهم} أي: دبرَّت ليلاً وأخفت من النفاق {غير الذي تقول} لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة، أو زوَّرت خلاف ما قلتَ لها من الأمر بالطاعة، {والله يكتب ما يبيتون} أي: يُثبِتُه في صحائفهم فيجازهم عليه، {فأعرض عنهم} ولا تبال بهم، {وتوكل على الله} يكفك شرهم، {وكفى بالله وكيلاً} عليهم، فسينتقم لك منهم.
الإشارة: هذه الخصلة موجودة في بعض العوام؛ إذا حضروا مع أهل الخصوصية أظهروا الطاعة والإقرار، وإذا خرجوا عنهم بيَّتوا الانتقاد والإنكار، فلا يليق إلا الإعراض عنهم، والغيبة في الله عنهم، فإن الله يكفي شرهم بكفالته وحفظه. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (82):

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون {القرآن}، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان، ويتبصّرون في معاني علومه وأسراره، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره، وتَوافُق آياتهِ وأحكامه، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر، وإنما هو من عند الله الواحد القهار، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} بَين أحكامه وآياته، من تَفَاوتِ اللفظ وتناقض المعنى، وكَون بعضه فصيحًا، وبعضه ركيكًا، وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع، وبعضه لا يوافق، وبعضه يوافق العقل، وبعضه لا يوافقه، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر، إذا طال، قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض.
قال البيضاوي: ولعل ذكره للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس للتناقض في الحكم، بل لاختلاف الأحوال من الحكم والمصالح. اهـ. قال ابن جزي: وإن عَرَضَت لأحدٍ شبهةٌ وظن اختلافًا في شيء من القرآن، فالواجب أن يَتَّهِمَ نظره، ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف. اهـ.
الإشاره: تدبر القرآن على حساب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، يتحجب عن أسرار معاني القرآن؛ ولو كان من أكابر علماء اللسان. فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب، أمر الله المنافقين بالتدبر في معاينة؛ لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم، لكن الأقفال الت على القلوب مَنَعَت القلوبَ من فهم كلام علام الغيوب، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد، الخائضون في تيار بحار التوحيد، الذين صَفَت قلوبُهم من الأغيار، وتطهرت من الأكدار، يتمتعون أولاً بحلاوة الكلام، ثم يتمتعون ثانيًا بحلاوة وشهود المتكلم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}
{وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...}
قلت: استنبط الشيء: استخرجه من غيره، وأصل الاستنباط: إخراج النبط، وهو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر، والجار في {منهم}: إما بيان للموصول، أي: لعلم المستنبطون الذين هم أولو الأمر، أو يتعلق ب (علم)، أي: لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس من أولي الأمر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في ذمّ المنافقين أو ضعفة المسلمين: {وإذا جاءهم أمرٌ} أي: خبر عن السرايا الذين توجهوا للغزو، من نصر وغنيمة وأمن أو خوف، وقتل وهزيمة، {أذاعوا به} أي: تحدثوا به، وأشهروه، وأرجفوا به قبل أن يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر الصحابة، الذين هم أولو الأمر وأهل البصائر، فيعرفون كيف يتحدثون به،
ولو ردوا ذلك {إلى الرسول} وأخبروه به سرًا، أو سكتوا حتى يصل إليه، أو يردوه {إلى أولي الأمر} من أكابر الصحابة، لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس {منهم} فينقلونه على وجهه، ويعرفون كيف يتحدثون به من غير إرجاف ولا تخويف، أو {لعَلمَه الذين يستنبطونه} وهم أولو الأمر أولاً، ثم يعلم الناس، فلا يكون فيه إرجاف ولا سوء أدب. أو: وإذا جاءهم أمر من وحي السماء: من تخويف أو تأمين، أذاعوا به قبل أن يظهره الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو سكتوا وردوا ذلك إلى الرسول حتى يتحدث به للناس، ويظهره أولو الأمر من أكابر أصحابه، لعلمه الذين يستخرجون ذلك الوحي من أصله، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر أصحابه، كما فعل عمر رضي الله عنه: إذ سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فدخل عليه فقال: أطلقت نساءك؟ قال: لا فقال على باب المسجد، فقال: إن رسول الله صلى عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قالت الحكماء: قلوب الأحرار قبور الأسرار، وهذه الخصلة التي ذمَّها الله تعالى توجد في كثير من العوام؛ مهما سمعوا خبرًا: خيرًا أو شرًا، بادروا إلى إفشائه، ولاسيما إذا سمعوه على أهل النسبة أو أهل الخصوصية، وقد تُوجد في بعض الفقراء، وهي غفلة ونوع من الفضول، فالفقير الصادق غائب عن أخبار الزمان وأهله، وقد ترك الناسَ وما هم فيه، وقد تغلب عليه الغيبة في الله حتى تغيب عنه الأيام، وأما الفقير الذي يتسمع الأخبار ويبحث عنها فلا نسبة له في الفقر، إلا اسم بلا مسمى، وقد ترى بعض الفقراء، يُبلِّغُ مساوِيَّ إخوانه إلى المشايخ، وهو سبب الطرف، والعياذ بالله.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبلغوني مساوي أصحابي»؛ لأن ذلك يسؤوهم، والخير كله في إدخال السرور على قلوب المشايخ.
وتنسحب الآية على مَن يُفشِيِ أسرار الربوبية، ويُطلع الفقراء علَى الحقيقة، ولو ردوا ذلك إلى شيخهم حتى يكون هو الذي يطلعهم لكان أحسن، لأن الحقيقة إذا أُخِذَت من الشيخ كان فيها سر كبير، بخلاف ما إذا أُخِذّت من غيره، إلاَّ إذا كان مأذونًا في ذلك فكأنه هو. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي: قال أبو سيعد الخراز: إن له عبادًا يدخل عليهم الخلل، ولولا ذلك لفسدوا وتعطلوا، وذلك أنهم بَلَغُوا من العلم غاية، صاروا إلى علم المجهول، الذي لم ينصُّه كتاب، ولا جاء به خبر، لكن العقلاء العارفون، يحتجون له من الكتاب والسنة، بحسن استنباطهم ومعرفتهم، قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}. اهـ.
قلت: ومعنى كلامه: أن الله تعالى أشغل علماء الظاهر بتقرير علم الفرق، ولولا اشتغالهم بذلك لتعطلوا وتبطلوا، إذ لا قدرة لهم على عمل القلوب من الفكرة والنظرة، لكن العارفون يقرون لهم ذلك، ويحتجون لهم بما في نشر العلم من الأجور، من الكتاب والسنة، لأنهم قاموا بنظام عمل الحكمة ورفعوا علم الشريعة، ولولا قيامهم بذلك لتعين على أهل الباطن، فتتشوش عليهم قلوبهم، وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه يقول: جزاهم الله عنا خيرًا؛ رفعوا لنا علم الشريعة، نحن نغرق في البحر، ثم نرفع رأسنا فنرى العلم قائمًا، ثم نرجع إلى البحر. اهـ. بالمعنى، والله تعالى أعلم.
ثم إن الهداية بيد الله، قوم أقامهم في الفرق، وقوم هداهم إلى الجمع، كما قال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً}
يقول الحقّ جلّ جلاله: لولا أن الله تفضل عليكم ورحمكم بنبي الرحمة، وأنقذكم من متابعة الشيطان وعبادة الأوثان، لبقيتم على كفركم وضلالكم، ولاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الكفر والعصيان، إلا قليلاً ممن اهتدى قبل بعثته، كقس بن ساعدة، وزيد بن نفيل، وورقة بن نوفل، رزقهم الله كمال العقل؛ فنظروا وتفكروا بعقولهم؛ فوجدوا الله واعتزلوا ما كان يعبد آباؤهم وإخوانهم. أما قس فاعتزل قومه، وعبد الله وحده، وكان يخطب على الناس ويأمرهم بالتوحيد، ويعيب عليهم عبادة الأصنام. وعاش سبعمائة عام. وأما زيدٌ فتعلق بالحنيفية، دين إبراهيم، حتى مات قبل البعثة. وأما ورقة فأخذ بدين النصرانية التي لم تُغَيَّر، وأدرك أول البعثة، وآمن بالرسول قبل أن يُؤمر بالإنذار، قال عليه الصلاة والسلام: «رأيتُه في الجنة عليه ثيابُ خُضر» والله تعالى أعلم.
الإشارة: لولا فضل الله عليكم بأن بعث لكم مَن يدلكم على الله ويعرفكم بالله، ورحمته بأن أخرجكم من ضيق الفرق، إلى فضاء الجمع، لاتبعتم الفرق علمًا وعملاً، لكن الله تعالى بفضله ورحمته غيبكم عن شهود الفرق بشهود الملك الحق. إلاّ فرقًا قليلاً تقيمون به رسم العبودية، وتظهرون به الآداب مع الربوبية.
قال الورتجبي: الفضل والرحمة منه للعموم، ومحبته للخصوص، الذين هم مستثنون بقوله: {إلا قليلاً}. اهـ. قال القشيري: {ولولا فضل الله} مع أوليائه لهاموا في كل وادٍ من الفرقة كأشكالهم في الوقت. اهـ. فَخَصَّ الإشارة بالأولياء، وعليه فقوله: {إلا قليلاً} أي: إلا تفرقة قليلة تعرض لهم، تربيةً لهم، وإبقاء لرسمهم ومناطِ تكليفهم. والله تعالى أعلم. قاله في الحاشية.

.تفسير الآيات (84- 86):

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}
قلت: {نفسك}: مفعول ثانٍ، والأول نائب، أي: لا يكلفك الله إلا نفسك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فقاتل} يا محمد {في سبيل الله} ولو وَحدَكَ إن تثبطوا عن الجهاد، لا نكلفك إلا أمر نفسك، {و} لكن {حَرِّض المؤمنين} على الجهاد، إذ ما عليك إلا التحريض. فجاهدوا حتى تكون كلمة الله هي العليا. {عسى الله أن يكف} بجهادكم {بأس الذين كفروا} ويبطل دينهم الفاسد. {والله أشد بأسًا} منهم {وأشد تنكيلاً} أي: تعذيبًا لهم. وقد حقَّق الله ذلك ففتح الله على نبيه قبائل العرب، فلم يبق فيهم مشرك، ثم فتح على الصحابة سائر البلاد، وهدى الله بهم جميع العباد، إلا من فرّ من الكفار إلى شواهق الجبال.
وإنما أمرتك بالتحريض على الجهاد، لأن الدال على الخير كفاعله، وذلك كالشفاعة بين الناس ودلالتهم على إصلاح ذات البين، فمن {يشفع شفاعة حسنة} بأن ينفع المشفوع له، بدفع ضرر أو جلب نفع، ابتغاء وجه الله، {يكن له نصيب منها}، أي: حظ كبير من الثواب؛ لأنه دل المشفوع عنده على الخير، وأوصل النفع إلى المشفوع له، فله من الأجر مثل ما لهما، ومنها: الدعاء بظهر الغيب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَن دعا لمسلمٍ بظَهرِ الغَيبِ استُجيب له، وقال له الملك: لك مِثلُ ذَلِكَ».
{ومَن يشفع شفاعة سيئة}، يريد بها فسادًا بين الناس؛ كنميمة وزور وإحداث بدعة، {يكن له كِفلٌ} أي: نصيب {منها} أي: من وِزرها، وفي الحديث: «من سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ، فله أجرُهَا وأجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إلى يَومِ القيامَةِ، ومن سنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوم القيامَةِ» {وكان الله على كل شيء مقيتًا} أي: مقتدرًا من أقات على الشيء: إذَا قدر عليه، أو شهيدًا حافظَا فيجازي على قدر الأعمال.
ومن هذا أيضًا: السلام، فإنه سبب في ثواب الرد، لذلك ذكره الحق في سلك الدلالة على الخير فقال: {وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} بأن تقولوا: وعليكم السلام والرحمة والبركة، {أو ردوها} بأن تقولوا: وعليكم السلام.
وفي الخبر: «مَن قَالَ لأخيه المسلم: السَّلامُ علَيكُم، كتب الله له عَشرُ حَسنات، فإن قال: السَّلامُ عليكُم ورحمَةُ الله، كتب الله له عِشرين حَسنة، فإن قال: وَبَرَكَاتُه، كتب الله ثَلاثين»، وكذلك لمن ردّ، فإن اقتصر على السلام، فعشر، وهكذا.. فإن ذكرَ المسلم الرحمةَ والبركةَ، قال الرادُّ: وعليكم، فقط، إذ لم يبق ما يزاد، ورد السلام واجب على الكفاية، حيث يكون مشروعًا، فلا يرد في الخطبة، وقراءة القرآن، والذكر والتفكر، والاعتبار، ونظرة الشهود والاستبصار، لأنه يفتر ويشوش، وفي الحمام إذا كانوا عراة، وفي حال الجماع والأكل والشرب وغيرها من المسائل المستثناة.
وقد نظمه بعضهم، فقال:
رَدُّ السَّلآم واجبٌ إلا على ** مَن في الصَّلاةِ أو بأكل شُغلا

أو شُربٍ أو قراءةٍ أو أدعِيه ** أو ذكرٍ أو خُطبةٍ أو تَلبِيه

والسلام من تحية أهل الإسلام، خاصٌّ بهم. لذلك استغرب الخضر عليه السلام سلام سَيدنا موسى عليه السلام فقال له: وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السلام، إنما أنكر الملائكة حيث سلموا عليه بتحية أهل الإسلام؛ لأنه كان بين أظهر قوم كفار، أما سلام أبي ذر على النبي صلى الله عليه وسلم بتحية أهل الإسلام، قبل أن يسلم، فلعله سمعه من بعض الصحابة قبل أن يسلم، أو إلهام من الله. والله تعالى أعلم.
{إن الله كان على كل شيء حسيبًا} يحاسبكم على التحية وغيرها. وبالله التوفيق.
الإشارة: فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق، فإن الله لا يغلبه شيء، فمن ذكّر عبادَ الله، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله. ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله، وإذا وقع السلام على الفقراء؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (87):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}
قلت: {الله}: مبتدأ، و{لا إله}: خبر، أو اعتراض، و{ليجمعنكم}: خبر، وهو أوفق بالسياق، و{لا ريب فيه} حال، أو صفة لمصدر، أي: جمعًا لا ريب فيه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الله لا إله إلا هو} أي: لا مستحق للعبادة إلا هو، والله {ليجمعنكم} أي: ليَحشرنك من قبوركم {إلى يوم القيامة} للحساب الذي وعدكم به، لا شك فيه، فهو وعد صادق، {ومن أصدق من الله حديثًا}، أي: لا أحدَ أصدقُ من الله حديثًا، لأن الكذب نقص، وهو على الله محال.
الإشارة: الحق تعالى واحد في ملكه، فلا يذوق وحدانيته إلا من كان واحدًا في قصده وهمه، فكل من وحَّدّ قلبه وقصده وهمته في طلبه، وانجمع بكليته إليه، جمعه الله لحضرته، ونعَّمه بشهود ذاته، وعدًا حقًا وقولاً صادقًا، لا ريب فيه ولا اشتباه، إذ لا أحدَ أصدقُ من الله.